الأحد، 24 مارس 2013

من شهداء الرأي والموقف في تاريخنا : غيلان الدمشقي

فقد دفع حياته ثمناً لاعلانه رأيه الحرّ النيّر في مسألةٍ سعى الحكامُ الى ترسيخها في أذهان العامة لضمان طاعتهم واستمرار سلطانهم. تلك هي " عقيدة الجبر الالهي" التي بدأ ملوك بني أمية بفرضها على الرعية -بالتواطؤ مع فقهائهم – بعد استيلائهم على السلطة وانتهاء فترة الخلفاء الراشدين.
فقد بدأ التلاعب المُغرض والمقصود بمفهوم " المشيئة الالهية " الوارد في القرآن وتحويره وجعله نوعاً من القضاء المحتوم الذي يسيّر أفعال الانسان وحياته كلها فلا يملك الاّ التسليم لارادة الله التي شاءت كل شيء موجود في هذه الدنيا. فقد كان الأمويون يروجون للعقيدة الجبرية فيخاطبون العامة بمنطق بسيط فيقولون لهم : أن كل ما كان، و ما هو كائن، و ما سيكون مستقبلاً، إنما هو أمر الله و قدره, وإرادته التي سطرها في اللوح المحفوظ من قبل ان يخلق الكون. وقصدهم في ذلك طبعاً تبرير حكمهم للناس، واعفاء انفسهم من مسؤولية الظلم والقهر والفساد ورفع اللوم عنهم لما أحدثوه من تغييرات في نظام الحكم الإسلامي وتحويله الى مُلكٍ عضوض.
كان معاوية يقول "لو لم يرَني ربي أهلا لهذا الأمر، ما تركني وإياه. ولو كره الله ما نحن فيه لغيّره".
وجاء الفقهاء من بعده ليجعلوا عقيدة الجبر هذه من صلب الاسلام ! فالامام أحمد بن حنبل كما ينقل عنه أصحابه يقرر - ويجعل ذلك من عقائد السلف - بأن " القدر خيره وشره، وقليله وكثيره، وظاهره وباطنه، وحلوه ومره، ومحبوبه ومكروهه، وحسنه وسيئه، وأوله وآخره، من الله قضاء قضاه، وقدر قدره عليهم، لا يعدو واحد منهم مشيئة الله عز وجل، ولا يجاوز قضاءه، بل هم كلهم صائرون إلى ما خلقهم له، واقفون فيما قدر عليهم لأفعاله، وهو عدل منه عز ربنا وجل، والزنى والسرقة وشرب الخمر وقتل النفس وأكل المال الحرام والشرك بالله والمعاصي كلها بقضاء وقدر، من غير أن يكون لأحد من الخلق على الله حجة، بل لله الحجة البالغة على خلقه (لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون) وعلم الله عز وجل ماض في خلقه بمشيئة منه، قد علم من إبليس ومن غيره ممن عصاه - من لدن أن عصى تبارك وتعالى إلى أن تقوم الساعة - المعصية وخلقهم لها، وعلم الطاعة من أهل الطاعة وخلقهم لها. وكل يعمل لما خلق له، وصائر لما قضى عليه وعلم منه، لا يعدو واحد منهم قدر الله ومشيئته. والله الفاعل لما يريد، الفعال لما يشاء...
ومن زعم أن الزنى ليس بقدر، قيل له: أرأيت هذه المرأة، حملت من الزنى وجاءت بولد، هل شاء الله عز وجل أن يخلق هذا الولد ؟ وهل مضى في سابق علمه ؟ فإن قال: لا، فقد زعم أن مع الله خالقا وهذا هو الشرك صراحا.
ومن زعم أن السرقة وشرب الخمر وأكل المال الحرام، ليس بقضاء وقدر، فقد زعم أن هذا الإنسان قادر أن يأكل رزق غيره، وهذا صراح قول المجوسية.
بل أكل رزقه وقضى الله أن يأكله من الوجه الذي أكله.
ومن زعم أن قتل النفس ليس بقدر من الله عز وجل، وأن ذلك (ليس) بمشيئته في خلقه، فقد زعم أن المقتول مات بغير أجله. وأي كفر أوضح من هذا. بل ذلك بقضاء الله عز وجل وذلك بمشيئته في خلقه، وتدبيره فيهم وما جرى من سابق علمه فيهم. وهو العدل الحق الذي يفعل ما يريد، ومن أقر بالعم لزمه الإقرار بالقدر والمشيئة على الصغر والقماءة "
 
نعود الى غيلان - وهو كان رجلاً ألمعياً , مسلماً فاضلاً , من أصل مصري , يعيش في عاصمة الامويين دمشق-  الذي قرر ان ينقض عقيدة الجبر هذه من اساسها. فكان يرفض أن تنسب الشرور التي نفلعها نحن البشر إلى الله تعالى ويرفض رفضا تاما المنطق المتهافت الذي يؤصل باسم الدين أن جميع الشرور من قتل واغتصاب ودمار وآلام مصدرها هو الله .فكان يقول ان الإنسان هو المسؤول عن أفعاله وأنها تنسب إليه حقيقة لا مجازا وأن الله سبحانه أعظم وأجل من أن يجبرنا على الأفعال التي نفعلها ثم يلقينا بالنار بناء على جبره لنا . وكان يؤصّلُ لهذه الفكرة المنطقية الواضحة بأدلة شرعية قوية من القرآن والسنة ويؤمن إيمانا تاما بالعدالة الإلهية.
 
وطبعاً هذه الدعوة لا يمكن ان تروق للحكام الامويين. بل هي مصدر خطر داهم عليهم وعلى نظام حكمهم. لأنها تحملهم هم مسؤولية الفساد والظلم الذي كان عاماً , وتنزّه الله عن ذلك.
وقد زاد الطين بلة بنظر الحاكمين من بني أمية رأيه في موضوع الخلافة والامامة . فخلافاً لنظريتهم – التي ألبسوها ثوباً شرعياً- حول ان " الائمة من قريش" قال غيلان أنها تصلح في كل من يجمع شروطها، و لو لم يكن من قبيلة قريش (كل من كان قائماً بالكتاب و السنة فهو مستحق لها).


فكان لا بد من القضاء عليه. وتولّى ذلك الخليفة هشام بن عبد الملك. ولكن كان لا بد من اضفاء صبغة شرعية على قرار اعدامه. فاستدعى الخليفة فقيه بلاد الشام المشهور آنذاك , الامام الاوزاعي, لكي يُفحم غيلان قبل الحكم عليه. ويروي الحافظ ابن عساكر في "تاريخ دمشق  , ج48 ص199-213" تفاصيل مؤلمة عما جرى. فقد جلبوا غيلان الى مجلس الخليفة وقام الاوزاعي بالدور المطلوب منه تماماً : أهدر دمه بعد مواجهة قصيرة مع غيلان المقيّد بلا حول ولا قوة. وما جرى أبعد ما يكون عن "المناظرة" أو الافحام بل هو أشبه بالمسرحية المصممة سلفاً للانتقام من صاحب الرأي الحر. واختتمها الاوزاعي بقوله لهشام بن عبد الملك " كافرٌ ورب الكعبة يا أمير المؤمنين"!
وكانت تلك الكلمة التي ينتظرها هشام . فأمر بقطع يديه وقدميه وصلبه على باب دمشق ! لكي يكون عبرة لمن يعتبر ولمن  يتجرّأ على التفكير الحر خلافاً لما تريده السلطة. ونتابع المشهد الدرامي الذي تذكره كتب التاريخ : فقد حاول أعداؤه أن ينتصروا عليه وهو على الصليب، فقال له أحدهم: “أنظر ماذا فعل بك ربك , يا غيلان هذا قضاء وقدر”  يريدون منه الإقرار بمذهبهم، لكنه رغم آلامه أصرّ على موقفه فقال بأعلى صوته: "كذبتَ لعمرو الله , ما هذا قضاء ولا قدر" واضاف “بل لعن الله من فعل بي ذلك”,,,,  مما دفع بهشام ان يأمر بقطع لسانه ايضاً !

وختاما أشير الى ان كتب التاريخ لم تنصف غيلان الدمشقي. بل انها تنحاز في مجملها الى موقف الحكام وفقهاء السلاطين. وأغلبها يشنّع عليه ويسوق ضده التهم والافتراءات, فيزندقونه ويخرجونه من الملة ويجعلونه منحرف العقيدة وعدوا للاسلام! اسلام هشام بن عبد الملك طبعاً.

 

رحم الله غيلان الدمشقي , وكل أصحاب الفكر الحر المستنير , في كل مكان وزمان

هناك تعليق واحد:

  1. اسم الصفحة ضد الجهل والخرافة وكل ما ينشر فيها جهل وخرافة ! غير اسمك الى حمار حر فهو اكثر دقة في وصفك من مفكر! وأين انت وأين الفكر والمنطق!

    ردحذف